الحياة من وراء غيمة

يخبروننا منذ الصغر أن الانتحار كفر، أن من ينهي حياته بنفسه يكفر بوجود الله ويبدد تلك الأمانة التي يحملها بداخله. لكن دائما ما كان يلح عليّ تساؤل ما، هل يقدم الإنسان المعافى  تماما على الانتحار؟

يقول “فرويد” أن بداخل كل منا غريزتين، غريزة الحياة “أيروس” وغريزة الموت “ثاناتوس”، تعمل غريزة الحياة على بقاء الإنسان وحفظ نوعه من الفناء، أما غريزة الموت فهي تهدف إلى التدمير، تبقى كامنة بداخلنا، نوجهها أحيانا نحو الآخرين ونتفاجأ بكم العنف بداخلنا. وتبقى “أيروس” فى مواجهة “ثانتوس” تعادلها، لكن ماذا لو اختلت غريزة الحياة بداخلنا؟!

***
خلال تنظيم المستشفى، التي أعمل بها كطبيب متدرب بالزمالة المصرية للطب النفسي، لإحدى الدورات التدريبية للأطباء الجدد، طلب منا –نحن الأطباء الأقدم نسبيا- أن يختار كل واحد حالة مرضية ما، ليؤديها أمامهم، كتدريب عملي لتوضيح بعض النقاط الهامة خلال تلك اللعبة الصغيرة، وجدتني وقتها بشكل سريع أختار حالة لديها ميول انتحارية. بعد المزاح مع زملائي عما إذا كان اختياري نابعا عن رغبة ما خفية بداخلي لإنهاء حياتي أو إحدى علامات اكتئاب ما، وجدتني أتساءل أنا أيضا لماذا؟ ما هي الرسالة التي ترغبين في إخبارها؟

هناك أسباب كثيرة تدفعك لتكون طبيبًا، أهمها على الإطلاق مساعدة هؤلاء ممن يعانون. تكافح معهم لمحاربة الألم وليسعدوا بحياة كريمة يستحقونها. لكن طوال الوقت يقبع شبح الموت في زاوية ما كحقيقة باردة صلبة، لا مفر نهائي منها. يهزمك أحيانا، وتعقد معه اتفاق في أحيان أخرى لأجل ما. أن تكون طبيبا نفسيا يعني أن يكون عدوك المطلق هو الانتحار، كعرض لمرض ما يهدد حياة مريضك كأمراض القلب والأورام الخبيثة.

أعددت سيناريو متخيلا لامرأة في منتصف العمر تعاني من اكتئاب حاد، ولديها أفكار انتحارية وخطة محكمة تجهز لها، وجدتني أتقصمها وأرى العالم كما تراه، مكانا ضيقا وباردا للغاية، أشعر أني وحيدة بداخله. أن لا شيء سيتغير أبدا. أنا ضئيلة للغاية وأستحق أن يتركني الجميع. أشعر بالعار لمجرد وجودي بالعالم وأتحاشى النظر في عيني محدثي. ربما الأفضل للجميع أن أذهب في هدوء عن تلك الحياة. وجدت طاقتي تتناقص شيئا فشيئا وأنا أؤدي الدور أكثر من مرة أمام زملائي، حتى أنني أوشكت على البكاء في إحدى المرات. كانت بطلتي تصرخ لطلب المساعدة، ولكنها لا تملك القوة اللازمة، وتجهل ما إذا قد التقط أي شخص استغاثها أم لا.
***

العديد من الصور المنتشرة على المواقع الاجتماعية للممثل الراحل روبين ويليامز، وغيره من المشاهير الذين أقدموا على الانتحار، التُقطتْ لهم خلال الفترة التي تسبق قيامهم بهذا. تجد فيها أشخاصا يضحكون وسط عائلاتهم. لا يوجد شيء غير اعتيادي، تحت الصورة كُتب “الاكتئاب يمكن أن يبدو هكذا”.

من الأقوال الشائعة أن من يفكر حقا فى الانتحار لا يتحدث عنه. وأن من يفعل فهو فقط يحاول جذب الانتباه إليه، ماذا لو كان كلامه هو إستغاثة روحه لعل أحدهم يلتقطها ويساعده؟ على الجانب الآخر ستجد أناس يتغنون بالمشاهير والأدباء الذين أقدموا على الانتحار، يصورون الفعل بشكل بطولي خادع. لا يعلم هولاء وقع كلماتهم على آخرين ممن يعانون وجع الحياة.

فى فيلم Girl Interrupted والذي قامت ببطولته وينونا رايدر بدور سوزانا، فتاة تعاني من إضطراب الشخصية الحدية Borderline personality disorder، أحد المشاهد والتي أتذكرها دائما، بعد إنتحار إحدى الفتيات التي تعرفت عليهن سوزانا في المصحة النفسية التي أقامت فترة بداخلها، قالت” عندما لا ترغب في الشعور بأى شيء يبدو الموت لك كحلم، لكن عند رؤية الموت، حقا رؤيته، يكون من السخيف أن تحلم به”.

***

لن أخبركم هنا بإحصائية ما تبين عدد الذين انتحروا على مدار السنوات الماضية، أو نسبة هؤلاء ممن يعانون من الاكتئاب سنويا. نحن نستحق أن نُعامل كأناس متفردين، لا أن يتم اختزال الجميع لمجرد أرقام وإحصائيات. هناك من فقدوا حياتهم، وهناك من فقدوا أحبائهم ويختبرون الخسارة كل يوم.

ورغم أن الانتحار هو أخطر ما يواجهنا كأطباء نفسيين، إلا أنه يمكن منعه. يمكن أن تنتابك مشاعر بالحزن، بالخزى أو انعدام الأمل. تشعر أنك عاجز عن التفكير والعمل، لا تملك الطاقة للقيام من السرير في الصباح. تشعر أنك ضئيل ولا تستحق أن تُحب. تظن أنه لا يوجد حل للخروج من تلك الدائرة والمعاناة. ربما تفكر أن الموت هو الحل، هو الذي سيضع نهاية لكل هذا. وربما تعتقد أيضا أن هذا سيدفع الآخرين ليدركوا فداحة ما فعلوه بك. ولكن ماذا لو كانت كل تلك الأشياء ليست سوى غيمة سوداء تصبغ كل ما حولك ويمكنك إزاحتها لترى الألوان مرة أخرى؟! ماذا لو أن كل ما تعانيه هو أعراض لمرض يمكن الشفاء منه أو التعايش معه بشكل أفضل؟!

لن أضع هنا قائمة بما يتوجب عليك فعله. لا يوجد كتيّب علينا جميعا أن نطبقه بحذافيره. لكل منا حكايته وطريقه. لكن ربما ما يفيد الجميع هو علاقة بشرية حقيقية يشعر فيها بالأمان وتعيد ثقته بنفسه وبالعالم، وقد تكون تلك العلاقة مع الطبيب النفسي، أو المعالج النفسى. فإذا كنت تختبر تلك الأعراض التي ذكرتها بالأعلى، أو ببساطة تشعر أنك لست بخير، لا داعي لأن تتحمل في صمت. اطلب المساعدة.

***

اعتاد أساتذتنا أن يصفوا الانتحار بحل نهائي لمشكلة مؤقتة، وقد يشرح حقا هذا الوصف كل شيء.

 

 

عن د. رودينا جمال

أخصائي الطب النفسي. عضو الجمعية الأمريكية للطب النفسي APA. حاصلة على دبلوم ممارسة الطب النفسي جامعة عين شمس. طبيب متدرب بالزمالة المصرية للطب النفسي بمستشفى المعمورة للطب النفسي.