من الطبيعي أن يتوافق احساس الفرد بهويته الجنسية مع جنسه وقد يحوي العنوان السابق بشئ من تداخل المفاهيم لكن إذا أردنا أن نبسط الأمر فنقول أنه عندما نتحدث عن “نوع الجنس” فإننا نتكلم عن المفهوم العضوي الجسدي وهو ما يتمركز عن الاختلاف في بناء الأعضاء الجنسية التناسلية وهو ما يميز الإنسان حسب تركيبه العضوي إلى ذكر أو أنثى.
أما “الهوية الجنسية” فيقصد بها المعنى المعنوي من الأمر ونظرة الفرد لنفسه وكيفية تعامله مع الآخرين، ومن خلال ذلك المنظور تتكون لدى الإنسان صورة واحدة من اثنين “رجل” أو “امرأة”..
ويشترك في بناء تلك الصورة معتقدات كل مجتمع عن صورة ودور الرجل والمرأة على حدى.
كل المجتمعات والثقافات لها أعرافها المعلنة وغير المعلنة التي تحدد كيف يسلك الرجال في المجتمع وكذلك ماذا يجب أن تفعل الإناث..
وتحدد القواعد التي يجب أن يتبعها كل منهما ولأن هذه الصورة الذهنية عن الهوية ترتبط بشكل كبير بالأعراف لذا فمن الممكن أن تختلف في نفس المجتمع بتغير الزمان..
لكن الثابت أن أى مجتمع يسعى أن يصنع من الأولاد والبنات رجالاً ونساءًا حسب رؤيته لهذا المفهوم.. ولهذا فإن عملية اكتساب صفات وسلوكيات كل جنس ذكر كان أو أنثى ليصبح رجل أو امرأة من عمليات النمو الطبيعي رغم صعوبتها أحيانًا فنرى من الإناث من تتقبل نفسها كأنثى لكنها لا تلتزم بسلوكيات النساء كما يراها المجتمع.
ولفهم نشأة الهوية الجنسية ونموها نجد عددًا من التفسيرات أهمها ما يفسر في إطار نظرية التعلم الاجتماعي حيث يوجه المجتمع من خلال المدح والقدح ومن خلال الثواب والعقاب لينمي من سلوكيات معينة ويحد من أخرى ومنها يربط الطفل بين مدى علاقة سلوكه بجنسه ومدى تقبل أو رفض هذا السلوك من حوله لهذا المسلك، كما أن ذلك يتكامل مع ملاحظة الصغير للفوارق بين سلوك والده وسلوك والدته بشكل خاص وبين الرجال والنساء عامة، وبناءاً على تلك الملاحظات التي تتراكم بذاكرة الطفل أو الطفلة فإنه يتعلم كيف يتصرف مع الآخرين في المواقف المختلفة وهنا نقول للوالدين أن كل حركاتهم وسلوكياتهم تكون نموذج يحتذي به طفلهم لأنه غالبًا ما يتقمص شخصية الوالد إذا كان ولد أو الوالدة إذا كانت بنت في بداية تكون هويته الجنسية.
ومما لا شك فيه أن تحفيز الوالدين لطفلهم له دور أساسي في الاقتراب من أو البعد عن السلوك المناسب..
فمن الطبيعي أن ترى الأب أو الأم يشجعون ابنتهم حينما يرونها تلاعب عروستها متقمصة دور “أم” محاولة رعايتها وتغيير ملابسها أو حملها، بينما نرى منهم الانتقاد إذا رأوها تتصرف بطريقة الأولاد كالقفز أو الجرى، كما ترى الوالدين يشجعان ولدهما اذا رأوه يلعب بالمكعبات أو الكرة بينما ينتقدوه إذا رأوه يلعب بالعرائس كالأم مثل البنات.
كما أن الآباء والأمهات غالبًا ما يرجون في ولدهم قدر أكبر من الاستقلال في أداء أعماله اليومية بقدر أكبر مما يروه مناسبًا للبنات، وفي كل المجتمعات فإن الجميع غالبًا ما يتوقع قدرات أعلى من البنين عنها في البنات..
مما يحدو بهم لمنحه درجة أكبر من الاستقلالية. كما أن الغالب في المجتمع تقبل طلبات البنات للمساعدة بينما ينفذ الصبر سريعًا إذا كان ذلك من البنين.. بل أن من الآباء والأمهات من يغلظ من عقوبة الولد أكثر من عقاب البنت لو أخطآ نفس الخطأ ظنًا منه أنه يجب الصفح عن البنت في الكثير من الأخطاء، وربما يكون ذلك ناتجًا عن فكرة أن “الأولاد” أكثر عنفًا والبنات أكثر “رقة” وبصرف النظر عن حقيقة هذه الفكرة لكن بالفعل غالبية المجتمع يتصرف على أساسها.
بمرور الوقت فإن الأطفال أنفسهم هم من ينصبون من أنفسهم رقباء على سلوكياتهم أو سلوكيات رفقائهم لمتابعة الأفعال اليومية وربطها بمدى توافقها مع جنس الطفل، ولهذا حتى إذا تغافل الوالدان عن توجيه أولادهم وبناتهم لما يناسبهم فلن ينجو من توجيه أصحابهم وزملاءهم في المدرسة والنادي والشارع فهم ينتقدون كل فعل في إطار ما يراه المجتمع يصح أو لا يصح.
وبعيدًا عن رأى الوالدين ورأى الأصدقاء فإن قصص الأطفال خاصة والبرامج الإعلامية المسموعة والمقرؤة، والانترنت عامة تلعب دورًا واضحًا في إظهار الهوية الجنسية عند الصغار..
لو تابعت قصص الأطفال فغالبًا ما تعرض الولد في صورة بطولية أو في موقف الناشط أو “حلال المشاكل” متحدي الصعاب محقق الأهداف وعلى العكس فإن دور البنت غالبًا ما يعرض بصورة سلبية يظهر عليها علامات الخوف محاولة أن تهرب من مواجهة المخاطر طالبة للمساعدة من الغير، كما أن العرض الإعلامي المسموع والمقروء أو عبر الانترنت غالبًا لا يختلف عن هذا التمثيل.
في متابعة لعدد كبير من الأولاد والبنات في عدد من الدول المختلفة كان هؤلاء الأولاد والبنات يشاهدون عدد من البرامج والأفلام كان محتوى هذه البرامج طابع نسائي للبنين وكان للبنات سلوكيات ذكورية..
بمتابعة هؤلاء الأطفال لفترة طويلة لوحظ تأثرهم الشديد بما شاهدوه وكان عندهم اختلال لمفهوم “الهوية الجنسية” بالنسبة لجنسهم بعد مشاهدتهم لهذه المواد الفيلمية..
لذا فمتابعة الوالدان لما يشاهده أبناءهم أمر هام ولا يجب أن يتركوا أحرار يشاهدون ما يحلو لهم، فهناك الكثير من القنوات التي تهتم فقط بتسلية وجذب الطفل دون الاهتمام بالمسألة التربوية أو التأثير السلبي لمحتوى ما تعرضه.
ليس المحدد للهوية الجنسية هو آراء الآخرين فحسب بل أن النمو المعرفي للطفل يوم بعد يوم وشهر بعد شهر يؤصل هويته الجنسية بزيادة إدراكه لذاته وللآخرين من حوله بصرف النظر عن رأيهم فيه أو مسألة الصواب والعقاب.. فبدايات هذا الإدراك تكون قد ظهرت جليًا ببلوغ الولد أو البنت الشهر الثلاثون ويترسخ معها مبدأ “أنا ولد… ولهذا فسأتصرف كالأولاد”.
أو مبدأ “أنا بنت… ولذا سأتصرف كالبنات”.
وبمعنى آخر يصير سلوك الولد أو البنت دامغًا لتحقيق الصورة التي يراها لإثبات هويته الجنسية.
تبدأ الهوية الجنسية في النشأة بانتهاء العام الثاني ويمتد حتى العام السابع.. لو أعطيت طفل يبلغ من العمر 3 سنوات مجموعة من صور الأولاد والبنات فيمكنه وقتها فصل صور الأولاد عن صور البنات وإن كان في هذا السن الصغير لا يستطيع أن يقرر ماذا سيكون الولد عندما يكبر.. أى إن سألته ماذا سيكون الولد عندما يكبر أب أو أم فغالبًا لا يستطيع الإجابة وقتها وذلك جهلاً من الأطفال في تلك المرحلة العمرية بعملية “ثبات الجنس عند الإنسان”.
لكن مع مرور الأيام وزيادة قدراته الإدراكية ونمو معرفته تترسخ عنده هذه الحقيقة وساعتها لا يعود سؤاله عن مصير الولد عندما يكبر من الأمور المحيرة بالنسبة له.