يعيشون بيننا

“إلى هؤلاء الذين سكنوا هوامش الأوراق والمدن والحياة وأسندت لهم الأدوار الثانوية .. أنتم هنا الآن تلعبون دور البطولة، استمروا فى الحكى لعلهم يعقلون”
يحكى كاتبنا على مد كتابه بطولات عدة .. لفئة تكاد تكون منسية ..
غير أنه أرانا أيضا ثلاثة مشاهد أخرى تحكى بالأساس عن البطولة

المشهد الأول نراه فى رسالته لأبيه. . بطله الخاص
أباؤنا الذين لا يحققون ربما العناصر اللامعة لمفهوم البطولة فى عصرنا الحديث  لكن بطولتهم الحقة كبطولة أبى الكاتب. . الذى نجح فى أن يضع بذرة إنسان وكاتب وطبيب أفرد له الصفحة الأولى معبرا عن امتنانه. . واشتياقه

المشهد الثانى أتى فى آخر الصفحات. . بطولة التمريض والعمال أيام الطوفان -غرق مستشفى المعمورة – الذين لم تشغلهم لقطات النجاح المزيف، وأثبتوا إخلاصا حقيقيا نادر العملة.

أما المشهد الثالث فهو ممتد بينهما .. بطولة الكاتب نفسه .. يرسم أيام عمره مدمجا إياها بكل ما تحويه من أفكار ومشاعر وردود فعل مع أبطال الكتاب المعنيين

ويطلب منا بالتبعية أن نمارس بطولتنا الخاصة فى أماكننا .. ما ناقشه فى نقطة “المصلح الاجتماعى

يبدأ الكاتب كما يبدأ  الطبيب النفسى مع المرضى أو ذويهم .. نضع أيدينا معا على المشكلة ، ونقوم بتهيئة الوضع لما قد نراه لاحقا
يأخذ بأيدينا بداية من الشاطئ .. ومع كل حكاية جديدة .. نغوص فى أعماق النفس والروح
نبحر من حكاية لأخرى وفى كل حكاية يجيد الكاتب فن الالتفات
نقرأ “عنهم” .. ثم نفاجأ بأن الكلام صار “عنا”

ما أورده الكاتب فى الغلاف الخلفى: “عند ناصية الطريق قد تصطدم بواحد منهم، وفى المرايا قد تصطدم بك ، لا تعرف هل أنت منهم أم هم منك، لو فتشت فى نفسك لوجدتهم، ولو فتشت فى نفوسهم لوجدت نفسك”
ينعكس نفس المعنى أيضا فى كون الكاتب “أحمد” وأحد أبطالنا “أحمد ” وإحدى البطلات “أم أحمد”

تخرج من الكتاب بحالة شعورية مختلطة ، الكاتب لم يصب الإحباط صبا ولم يفرط فى الأمل كذلك
يرينا أهلا طيبين يعنون بذويهم بلا كلل أو ملل كأم أحمد أو آخرين ما عادوا يلتفتون كأهل علاء

يرينا نموذجا للطبيب الإنسان ، فيه، والاستشارى الذى قرأ إشارات الجسد ، أو الآخر الذى آثر ترك الهلاوس السمعية للسيدة السبعينية مع المتابعة الجيدة كى لا تنهشها الوحدة
ونموذجا آخر لأطباء لا يستحقون اللقب .. يتعاملون بلا إنسانية  أو كالآخر الذى خلط الطب بالدجل

يرينا الشاب الذى لو نجحنا مجتمعيا وطبيا فى إعداد أمه قد لا نراه سائرا على خطى صالح

وكما يحرك الكتاب فيك المشاعر ، تعبث برأسك الأسئلة
تجد لبعضها إجابة واضحة فيك .. أو فى نظر الكاتب ، وبعضها يظل بذرة فى أرض الاحتمالات كابتسامة عم مرزوق وإيماءة رأسه

فى الحكايا نرى حلم أحلام
أو ربما كما قال الكاتب هو حلم عزيزة
ربما هو حلم الكاتب .. أو حلمى .. أو حلم كثيرين غيرنا
رغبتان تتبادلا حد التنازع .. فى أن نظل على الأرض ونحتضن البشر أو أن نبتعد عنهم خوفا من الأذى

نرى أحد أهم الأعراض فى الطب النفسى “الانتحار”
وفيه يلفت الكاتب نظرنا إلى انتحار آخر قد نمارسه ولا نرى فيه بوضوح الموت .. أو الرغبة فيه
الانتحار الحياتى  .. قد يكون انتحارا وظيفيا أو سياسيا أو استمرارا فى علاقة مستنزفة
يقول :” إن بعض الاختيارات فى حياتنا عندما نفعلها بعمد ونحن نعلم تماما أنها اختيارات خاطئة. . هى محاولات انتحار ”

فى كل حكاية .. ومع كل قراءة جديدة نستنبط معانى جديدة كانت مخفية
تحدث الكاتب عنا فرادى .. ثم جمعنا فى وطن “قدرية”
يقول :”كان الوطن يموت فى انتظار سيارة إسعاف ، كان الوطن يلفظ أنفاسه الأخيرة ونحن نتفاوض مع مرفق الإسعاف ونتصل بالنجدة ونهرول لننقذ ما يمكن إنقاذه .. لم يدركوا أن الوطن مسجى على سرير فى مستشفى لا تمتلك أى  إمكانيات لإنقاذ حياته .. يواجه مصيره وهم يحاربون وهما صنعوه
الوطن يموت يوما بعد يوم وتحل مكانه فى نفوسنا المسوخ”

بقراءة الكتاب نكون قد خرجنا من حيز ما أسماه الكاتب “راحة الإنكار” بعدما ألقى فى عقولنا ونفوسنا الحقيقة وما عاد من متسع لنتنصل من مسئولية التغيير
قد نلخص رسالة الكتاب كما فعلت فايزة
لخصت هى كل ما أرادت قوله فى حياتها فى طلب “الحضن”
وما يقوله الكتاب بعد كل ما قد قيل فيه “كن إنسانا .. وتفاعل مع الإنسان فيهم .. هم وإن فقدوا جزءا من عقولهم فقلوبهم لازالت نابضة تشعر .. يبرهن على ذلك قطتا علاء وقلب عم مرزوق ومشط فى يد عزيزة وأغنيتان”

ينتهى الكاتب عند مشهد البداية .. حيث النافذة المطلة على الشجرة المخروطية الممتدة نحو السماء .. لحظة فقدان الأمل تنقر على الباب ، غير أن كاتبنا ينعش قناعات عاش بها سعيدا لسنوات طوال .. لتكن بداية .. ولنبدأ رحلة عمر جديدة.