كيف تجعلنا السوشيال ميديا نرى أنفسنا؟

تتحكم وسائل التواصل الإجتماعي حاليًا بشكل كبير في حياتنا اليومية وتعاملاتنا مع الآخرين، لم يعد الأمر مجرد عالم إفتراضي موازٍ ولكنه تداخل مع واقعنا بشكل كبير، حتى أن الكثير منا عند سؤاله عن أول شيء يفعله في الصباح سيجيبك بتلقائية “أتفقد هاتفي“، أصبحت المواضيع المثارة على مواقع التواصل الإجتماعي تحتل معظم الأحاديث الجانبية اليومية التي يحاول البشر ملء الوقت بها وخلق الألفة بينهم، وربما أيضا سبب لنشوب الخلافات.

أكبر دلائل قوة تلك الوسائل ربما أنه أصبح لدينا الآن مشاهير الإنترنت أو Internet celebrity من Vloggers و Social media influencers، أشخاص لديهم أعداد كبيرة من المتابعين، يتميز البعض منهم بموهبة حقيقية ومحتوى قوي يقدمه، والبعض لا يوجد لديه محتوى على الإطلاق.
معظم هؤلاء “المؤثرين” ينشرون بشكل متواصل عن أشياء مختلفة من حياتهم اليومية وتفاصيلها، والبعض يقوم بالنشر عن موضوع معين لديه شغف خاص به. الأهم أننا جميعا نتأثر بهم بشكل أو بآخر، فمثلا كم عدد المرات التي زرت فيها مطعما ما لأن أحدهم وضع صورته هناك؟ أو قمت بشراء منتج معين لنشر أحد هولاء المشاهير عن مميزاته؟ هذا ما يطلق عليه “قوة التأثير”.

عوامل كثيرة تحدد تلك القوة، أولها رغبة البشر في الإنتماء للجماعة والحصول على القبول المجتمعي. أغلب هؤلاء المشاهير لديهم جاذبية قوية ويتابعهم الآف البشر الذين يعبرون عن إعجابهم بمنشوراتهم بشكل متواصل، وكأن عند شراء هذا المنتج أقوم بإثبات انتمائي لتلك المجموعة. الأهم كيف يبدو هؤلاء المشاهير قريبين وموجودين في حياتنا اليومية. معظمهم ينتمي إلى جيل الألفية وما بعدها كأغلب متابعيهم. يقوم أغلبهم بالتواصل بشكل مستمر مع متابعيه وينشر أدق تفاصيل يومه بشكل منتظم وربما يشارك مشاعره المختلفة أحيانا وكأنه الصديق المقرب الذى يشبهك كثيراً ويمكنك الوثوق به.

على الجانب الآخر فقدَ معظم الأفراد ثقتهم بالمشاهير التقليديين من الفنانين والإعلاميين وغيرهم، فهم بعيدون تماماً عن الشخص العادي وحياته اليومية. وهذا ما تعتمد عليه تحديداً الدعاية الحديثة، نظراً  لتكلفتها المنخفضة مقارنةً بالطرق التقليدية كالصحف والإعلانات وغيرها (والتي انخفض أيضا عدد متابعيها لحساب وسائل التواصل الاجتماعي) ومدى فاعليتها وتأثيرها.

أيضا وجد أن micro-influencers ممن لديهم عدد متابعين أقل نسبياً حوالى من 2000 إلى 50000 متابع، هم أكثر قوة وتأثيرًا ممن لديهم عدد أكبر من المتابعين Mega-influencers للأسباب السابق ذكرها.

 

نحن هنا لسنا بصدد مهاجمة تلك الظاهرة، فهي جزء من واقع علينا تقبله ومحاولة الاستفادة منه بأفضل صورة. لكن كما ذكرنا من قبل، ماذا لو أن أحدهم ليس لديه محتوى على الإطلاق ليقدمه؟ أن يتحول هو نفسه وتفاصيل حياته اليومية إلى صورة مزيفة وسلعة يستخدمها لزيادة متابعيه، وبالتالي ربحه. وأن يحدد قيمة الفرد في أذهاننا عدد متابعيه والتفاعل الذي تحصل عليه منشوراته. حتى أننا نجد من يتعمد إهانة نفسه وتحويلها لمادة للسخرية أحياناً طالما سيحقق هذا عدد متابعة ونسب مشاهدة عالية. الأسوأ أن يحمل المحتوى مفاهيم مغلوطة ومدمرة أحياناً والتي غالباً ما تنتشر بشكل سريع خاصة بين الفئات العمرية الأصغر.

 

عند سؤالك لكثير من المراهقين والأطفال في الوقت الحالى عن المهنة المستقبلية التي يحلمون بها، سيفاجئك عدد كبير منهم يتمنى أن يصبح Vlogger كبديل للوظائف التقليدية التي فقدت بريقها، أو حتى الوظائف المثيرة كرواد الفضاء مثلا، الأهم الشهرة والأموال بغض النظر عما يريد تقديمه فى الأساس. يفتح أمامنا هذا السؤال عن كيف غيرت وسائل التواصل الاجتماعي الطريقة التي نفكر بها جميعا والتي نرى بها المستقبل؟

فى الوقت الذي يبدو فيه هؤلاء المشاهير كما ذكرنا من قبل قريبين وجديرين بالثقة، فإن نمط حياتهم، المنمقة بعناية لتناسب الصورة الترويجية لهم، يتحول إلى كتالوج على الجميع إتباعه. بداية من الملابس ومستحضرات التجميل ومواصفات الجمال كما يروها، إلى رسم شكل العلاقات كما هو مفترض أن تكون، إلى هؤلاء دائمي السفر وأرباحهم الخيالية التي يحققونها. يقوم معظمهم برسم صورة خيالية وغير واقعية مع تعمد إخفاء أي جوانب سلبية وكأن حياتهم هي السعادة الخالصة التى يجب علينا جميعاً التطلع إليها.

كل هذا يزيد من إحباط المتابع تجاه تفاصيل حياته اليومية ووظيفته التقليدية وشريك حياته، وحتى تجاه نفسه وجسده، بسبب توقعاته المرتفعة، فيتولد شعور بعدم الرضا الدائم والذي بدوره يؤدى لمشاكل وآثار نفسية سلبية كثيرة، كالإكتئاب مثلاً.

 

في النهاية علينا رؤية الصورة المكتملة لندرك أن الحياة ليست فقط مشاعر إيجابية طوال الوقت بل يجب تقبل الفشل والإحباط وغيرهم من المشاعر السلبية كجزء أساسي من الحياة أحياناً ومحاولة التعامل مع تلك المشاعر والضغوط المختلفة في حياتنا. كما نحتاج لتنمية مهاراتنا النقدية، وألا نأخذ أي معلومة بشكل مسلم بها دون تأملها والتفكير بها والبحث عن مدى صحتها والتساؤل عن مدى ملائمتها لنا.

وندرك أنه لا يوجد خطوات محددة للنجاح أو معايير ثابتة علينا جميعاً الوصول إليها أو حتى كتالوج للحياة علينا إتباعه.

لا تدع أحدهم يرسم لك كيف من المفترض أن تكون حياتك. وليس علينا جميعاً أن نصبح مشاهير لنطلق على أنفسنا ناجحين، يكفى أحياناً فقط مشاركة الحياة وتفاصيلها ومشاعرك المختلفة مع دائرتك المقربة من الأشخاص الذين تهتم بهم حقاً دون انتظار الحصول على قبول الجميع. ليس معنى هذا ألا يكون لديك توقعات وتطلعات، فبدونها لن يتحرك أي شخص إلى الأمام، فجميعنا لدينا صورة مثالية متخيلة عن أنفسنا نحاول الوصول إليها. الأهم أن نتقبل ما نحن عليه الآن، وألا نتوقف في إنتظار تحقق تلك الصورة.

عن د. رودينا جمال

أخصائي الطب النفسي. عضو الجمعية الأمريكية للطب النفسي APA. حاصلة على دبلوم ممارسة الطب النفسي جامعة عين شمس. طبيب متدرب بالزمالة المصرية للطب النفسي بمستشفى المعمورة للطب النفسي.

أبحث أيضاً في

كیف غیر فیروس كورونا من أشكال التواصل الاجتماعي؟

هل یمكن أن یعود التواصل الاجتماعى كما كان قبل جائحة فیروس كورونا أم أن الحیاة …