نظرة “إلى” شباك العنبر

أذكر فى بداية نيابتى كطبيب مقيم نفسية وعصبية مريضا من مرضى العنبر ،كلما جلس أمامى للمتابعة بدا عليه الإتزان ،وتأتى تقاريره البيولوجية جيدة – ما يخص العلامات الحيوية وإنتظام الأكل والنوم –
متحدث جيد ، يعطى الإجابات النموذجية ، ينفى المرض والمنسوب إليه من كلام الأهل،  يخبرنى
أنه قارئ جيد لكتاب الله ،ويطلب الخروج

“طلب الخروج” ، المطلب الذى يتفق عليه جميع المرضى ،باختلاف أعمارهم ،ويبذلون فى سبيله كل مجهود ذهنى وبدنى، يتعلمون من المرضى المقيمين لفترات أطول ماهية الإجابات والسلوكيات التى قد تسرع بخروجهم، ويحاولون بجد الالتزام بها ،وحسب شدة المرض قد لا ينجح المريض فى تطبيق الشروط بتاتا، قد ينجح بقدر ما -على الأقل أثناء مقابلته مع الطبيب- ،ويساعد الإنتظام فى روتين العنبر وأثر العلاج البعض على الاستقرار الفعلى فيحقق المطلوب دون بذل جهد كبير ويصبح حينها مستحقاً بالفعل للخروج.

“انت/انتى دكتورة الخروج؟”

سؤال مألوف من كثير من المرضى ،يسألونه بتلقائية فور دخولنا -أنا أو أحد زملائى من النواب-العنبر :
ويكون رد فعلى التلقائى فى كل مرة ضحكة هادئة أو ابتسامة، يليها ما ينفى ذلك تماماً والتأكيد عليه حتى لا يستمر المريض فى الإلحاح ويخبر بقية زملائه ما يفيد بأنها ليست طبيبة الخروج فلا تعوّلوا عليها كثيرا، غير أنى فى داخلى أشعر بشفقة كبيرة عليهم. من منا لا يكون اختياره بوضوح الحرية ، وأن يكون سيد قراره ، حتى وإن اختلت بوصلة حكمه على الأمور واستبصاره لمدة قصرت أو طالت؟ أزعم أنه لا أحد،حتى الأطفال يختارون ذلك فور قدرتهم على الحركة بمفردهم

أشعر بشفقة كبيرة ،أجعلها وقودا للتعاطف وبث  الأمل فيهم، وتدريبات الصبر الخاصة بى كى لا ينتصر ضيقى الشديد من صفة الإلحاح فى العموم على اعترافى وإيمانى بأحقيتهم الكاملة-كرغبة- فيما يطالبون به ويلحون فيه؛الخروج.

أعود لمريضى الذى ذكرته فى البداية، صادف مرورى بجوار واحد من شبابيك العنبر وأنا خارجه بعد حين سماعى صوته يقرأ القرآن-وكنت أميز صوته،كذلك لا تمنحك الأسلاك الصدئة على الشبابيك مجالا واسعا لرؤية الملامح تفصيلا وتحديد الهوية بدقة-

كان قارئا جيدا للقرآن كما بلغنى،غير أن مالم  يبلغنى به هو أنه كان يدمج الآيات بالأغانى،يقرأ جزءاً من الآية وينهيها بمقطع من أغنية بصوت عال مبتهج…. يومها أدركت أنه ينتمى للفئة الثانية من طالبى الخروج ، وخطرت فى بالى وقتها خاطرة،قد أتعرف على مريضى بشكل أفضل من شباك العنبر لا من بابه،أى بما قد ألحظه ،أو من ينوب عنى وهو لا يلاحظ وجودى…. منذ ذلك الحين أصبحت أكثر انتباها للشبابيك بالمستشفى، بالمعنى الحسى والروحى..

منذ عدة أيام كنت أقرأ فيما يخص دراستى على مرأى من الشبابيك، وتناهى إلى سمعى صوت عذب يقرأ القرآن بإجادة، ظننته بداية من فرط جماله وإتقانه صادرا من المذياع،ولما أصغيت شعرت أن الصوت حى، قلت ربما هو واحد من الموظفين،ثم تأملت الشبابيك ورأيت الظل من خلال واحد منهم ،الرأس والجزء العلوى من الجسد، يتحرك للأمام والخلف،متناغما مع التلاوة،الشباك ينتمى لأحد العنابر، حيث أسرّة المرضى، وتساءلت ماذا لو تمكنا مجتمعياً من توظيف هذا الصوت وتقديره، هل سيحقق الإدماج المجتمعى والشعور بالقبول فيه ما نرجوه من تخفيف حدة المرض وتقليل فرص الانتكاس والحاجة للحجز بالمستشفيات؟ هل يتمتع هذا المريض الذى لم أره بفرصة كتلك،أو حظ منها؟،

هل يعلم الطبيب المسئول -بالتقييم اليومى- أن لديه مريضا يتمتع بهذه الهبة؟

 

العمل بالمجال النفسى مرهق جدا،ومستنزِف،خصوصاً بالمستشفيات النفسية العامة التى تمتلئ عنابرها بأصحاب الأعراض الشديدة، بطيئة التحسن،التى لا تملك فيها مجالاً واسعاً  للتصرف حيث يجتمع مع المرض؛الفقر والجهل ، والكثير من المشكلات الإجتماعية للمريض

كلما سقطت فى فخ الآلية، كحيلة دفاعية للشعور بالعجز أو فقدان الأمل،تنبهنى الشبابيك

وأنا أكتب هذه الكلمات، أرى ظل مريض آخر ،يقف خلف إحدى الشبابيك، يقول بصوت عال بصورة آلية:” أنت عندك مرض خطير،هتاخد العلاج وتبقى كويس وكله تمام”
أستعير الجملة التى لا أعرف من ألقاها على مسامعه وأضيف:
المرض النفسى ليس فى كل درجاته خطيرا،
والمريض النفسى لا يشكل خطورة على المجتمع

-إحصائيا الخطر الصادر عن مجموعة المرضى النفسيين لا يزيد عن الخطر الصادر عن أى مجموعة أخرى، بل وعلى العكس المريض النفسى يكون أكثر تعرضا للأذى المجتمعى من غيره-

المريض النفسى/العقلى مهما اختلفت شدة إعاقته يظل إنسانا من الدرجة الأولى “وبياخد العلاج ويبقى كويس وكله تمام”.

عن د. دعاء أحمد

دعاء أحمد عبد الفتاح استشاري الطب النفسي بكالوريوس الطب والجراحة. جامعة الأسكندرية. حاصلة على الزمالة المصرية للطب النفسي حاصلة على الزمالة العربي للطب النفسي حاصلة على دبلومة ممارسة الطب النفسى DPP بجامعة عين شمس

أبحث أيضاً في

أبناؤنا ومواسم الطاعات

 أبناؤنا ومواسم الطاعات بقلم: د.دعاء أحمد فى مواسم الطاعات تتنزل الرحمات..وتتضاعف الحسنات..وتتسع طاقات البذل ويكبر …