وأخيراً .. حب الموت

كل مرة أتلقى فيها خبر الموت .. وأهتز بشدة ..
تأتى إلى ذهنى صور عدة .. تحمل ارتباطات كثيرة ..

إحداها يكون “نجيب محفوظ” فى تسعينات عمره وأسمع صوته يقول .. “وأخيرًا .. حب الموت”

وأُرجع الشريط للوراء قليلا .. كى أسمع الجملة من بدايتها .. والتى علقت فى ذهنى مذ سمعتها أول مرة فى الفيلم التسجيلى عنه “حارة نجيب محفوظ” .. أعود لأسمعه يقول :

“فى هذه اللحظة من العمر أرى أنى أقمت حياتى فى الدنيا على أساس الحب .. حب العمل .. وحب الناس .. وحب الحياة .. وأخيرا .. حب الموت”

للجملة عندى ارتباط آخر. . نشأ بعد بداية دراستى لعلم النفس ..

تجاور صورة نجيب محفوظ صورة أخرى لعالم عاش قرابة عمره .. عالم النفس “إريك إريكسون” .. الذى نُسب لغير والده البيولوجي .. ولم يعترف به اليهود كيهودى مثلهم لاختلاف بشرته عنهم .. وعامله البقية كيهودى. . ذو شأن أقل وقت الفاشية .. فعاش عمره يبحث عن الهوية  .. ويكتب عنها كثيرا ..

وأرى نجيب فى جملته معدودة الكلمات .. يشرح الانتقال السلس من مرحلة لأخرى – أعنى مراحل إريكسون الثمانية- حتى التكامل و الوصول لمنتهى “الحكمة” .

فى نظريته عن النمو النفسى والاجتماعى يرى إريكسون أن فى الإنسان ككائن عضوى فضائل كامنة .. تساعد فى ظهورها البنية الاجتماعية الصالحة ..

    ثمان فضائل لثمان مراحل ..

وفى كل مرحلة .. تنشأ احتياجات جديدة .. أسئلة جديدة .. وتتسع الدائرة التى نتأثر بها وتؤثر فينا ..

 

الفضيلة الأولى هى “الأمل” ..

فى مرحلة  “الثقة/عدم الثقة”

تخيل نفسك فى عالم جديد تماماً لا تعرف شيئا من مفرداته ولا تملك كيفية التعامل معه .. هل تشعر معى بالتيه والفزع؟  هكذا يكون الطفل بعد ولادته .. أرض جديدة وكل ما فيها يمثل الخطر ..

وهنا يأتى دور الراعى الأول للطفل -الأم على الوجه الأخص- ليهدهد خوف الطفل ويلبى احتياجاته الأساسية.. فيخرج الطفل من هذه المرحلة بفرضية .. إذا أمكننى الثقة فى أحدهم الآن .. يمكننى الثقة فى الآخرين لاحقا ..

تأتى الفرضية جوابا على سؤاله: “هل يمكن أن أثق فى هذا العالم ؟ هل هو آمن؟”

وإذا لم يحالف الطفل الحظ .. ولم يجد فى بداية عمره رمزاً أولياً للثقة .. يتمكن الخوف منه ويصاحبه فى رحلة العمر الشك .. وعدم الثقة .

الفضيلة الثانية هى “الإرادة”
فى مرحلة “الاستقلالية/الشك”

أكمل طفلنا عاما ونصف من عمره وبدأ يدرك أنه كيان منفصل .. وراوده سؤال جديد :

“هل يحق لى اكتشاف نفسى ؟

هل يحق لى اكتشاف العالم ؟”

وعلى حسب إجابة الأبوين تزداد ثقة الطفل بنفسه وحبه لاستطلاع بيئته المحيطة أو ينزوى خائفا شاكّاً فى قدرته على الاستقلال بذاته .

الفضيلة الثالثة هى “الهدف”
فى مرحلة “المبادرة/الشعور بالذنب”

الثالثة من العمر .. تتسع الدائرة لتشمل الأسرة بأكملها .. ويبدأ إدراك الطفل أن عليه حصة من المسئولية. . وصورتها الجلية فى سنه تحكمه فى الإخراج – التبرز والتبول – ويبدأ إختبار الشعور بالذنب متى أخفق فى مهمته.

يبدأ خيال الطفل كذلك فى النمو .. وتتطور مهاراته فى اللعب -الجانب الذى اهتم به اريكسون كثيرا فى دراساته واستدل به على بعض الاضطرابات فى الطفولة- يبدأ الطفل فى خلق عالمه الخاص ويتساءل ناظراً حوله:“هل أملك الحق فى أن أفعل ما أفعله؟”
وتجيب أسرته مشجعة :”انطلق” .. فينثر الألوان فى عالمه الجديد أو يكون رد الفعل سلبى فى صورة توبيخ أو تجاهل ويترجم الطفل ذلك :”هناك خطأ ما ”  .. ويشعر بالذنب

الفضيلة الرابعة هى “المقدرة”
فى مرحلة “المثابرة/الشعور بالنقص”

السادسة .. سن المدرسة وشخوصها الجدد .. المدرسون والزملاء والأصدقاء ..
يرى الطفل الصغير نفسه فى ورطة ..

هل لى أن أثبت اختلافى عن كل هؤلاء ؟ ..

كيف أفعل ذلك ؟ ..

هل سأنجح فى أن أقول للعالم حولى: “أنا هنا”؟ ..

هل سأفعلها بالطريقة الصحيحة؟

وبقليل من التأمل لهذه المرحلة الشاقة على الطفل نفسياً .. وجسدياً حيث لازال النمو فى أوجه ..
ندرك سر الإضطراب الشديد الذى يشعر به الطفل ويترك أثراً ممتداً .. إذا ما تعرض للتنمر من قبل زملائه. . أو تجاهل معلميه. . أو حتى أن ينقص الإهتمام به من قبل والديه -بدون قصد- بسبب ولادة طفل جديد
يقول الطفل فى كل كلامه وتصرفاته -الجيد منها والسىء كذلك- “أنا هنا” ..
فإذا جاءته الإجابة :”نعم أنت هنا” .. ثابر واجتهد زيادة .. وإذا لمس الإجابة “لا، أنت لست هنا” .. تألم .. وشعر بالنقص.

الفضيلة الخامسة هى “الإخلاص”
فى مرحلة “الشعور بالهوية/اضطراب الهوية”

وتعنى الهوية: فهم وقبول النفس والمجتمع

فى هذه المرحلة أسمع بقوة صوت الجامعى فى قصيدة درويش “لاشىء يعجبنى”
“درست الأركيولوجيا دون أن أجد الهوية في الحجارة
هل أنا حقا أنا؟”

سن المراهقة وسؤالها المُلِح :”من أنا؟”

وينطلق المراهق باحثاً عن نفسه .. منهم من يحالفه الحظ ويجدها سريعا. . منهم من يتخبط كثيرا وينتقل بين النقائض حتى يستقر .. منهم من يزوره السؤال متأخرا ..

أكثر ما يحتاجه المراهق فى فترة تيهه الإحتواء. . ومحاولات الاستيعاب والصداقة أكثر من أى شىء آخر .. حتى تنتهى فورة النفس والجسد على خير .. بلا مخالفات جسيمة ..

الجدير بالذكر أن تشخيص إضطرابات الشخصية المَرَضية يكون بعد سن الثامنة عشرة. . أى بعد إنتهاء هذه المرحلة. . وهذا يعكس كون الإضطرابات فى مرحلة المراهقة هى الصورة السائدة. . لا تجعلنا بالضرورة نرى ما ستؤول إليه الأمور

الفضيلة السادسة هى “الحب”
فى مرحلة “المودة/العزلة”

فى حياتنا التى سبقت .. تركت الدائرة التى تحيط بنا أثرها .. وفى القادم من العمر .. نحاول خلق دائرتنا الخاصة .. هل سننجح فى ذلك ؟ .. هل نملك القدرة على الحب .. والإتزام بمسئوليته فى علاقة جدية مع الآخر .. سواء كان شريكا أو صديقا؟

تأتى الإجابة لصالحنا أكثر إذا كانت الإجابات السابقة فى صالحنا أيضا .. لأن من وجد نفسه .. وتمكن من تحديد أدواره فى الحياة .. هو الأجدر بإيجاد الآخر .. والإرتباط به بشكل صحى وناضج ..

الفضيلة السابعة هى “الرعاية”
فى مرحلة “الانتاجية/الركود”

اتسعت دائرة العمل والأولاد .. وسؤالنا الجديد يتخطى ذواتنا .. “هل أملك ما أقدمه للأجيال التى تلينى؟” ..
فى هذه المرحلة تمر بنا الأربعون .. ويقع البعض فيما يُسمى “أزمة منتصف العمر” ..

لما تزاحمنا الأسئلة :
“لماذا أعمل ؟ .. ولأجل من ؟ .. وهل هذا ما أرغب فى فعله حقا؟” .. بلا إجابات مُرضية  .. أو صمت مزعج يعكس الخواء .. والركود هنا لا يعنى بالضرورة أننا لا نفعل شيئا. . قد يأتى الركود فى صورة أن يشتت الفرد طاقاته فى مواضيع متعددة Over extentive أو أن ما يفعله هو من أجل ذاته فقط Self absorption .

الفضيلة الثامنة هى “الحكمة”
فى مرحلة “تكامل الأنا/اليأس”

عمر الستين .. تأمل شريط العمر ..
البعض لا ترضيه التفاصيل والكواليس ويقع فريسة اليأس ..
والبعض يراه متكاملاً .. حتى فى صعوباته كان جديراً بالعيْش. . فتكلله هالة الحكمة. . وينساب منه الدفء فى شتى صوره .. يشبه صوت محفوظ وجملته الأثيرة.

 

* قطار محطات إريكسون الثمانية ليس اتجاهاً واحداً .. بل يتحرك بنا ذهاباً وعودة ..
ليس بالضرورة أن نحل جميع مشكلاتنا بخصوص مرحلة كى نستطيع الإنتقال لما تليها .. وحتى فى حال حلها -أو ظننا كذلك- قد نعود إليها وتعود تساؤلاتنا فيها فى وقت لاحق.

 

**لا شىء مطلق. . والمطلق ليس جيدا فى كل أحواله

على سبيل المثال فى المرحلة الأولى “الثقة /عدم الثقة ”  .. الثقة المطلقة ليست جيدة لأنها تجعل الطفل أكثر عرضة للإحتيال وخيبات الأمل. .وقليل من عدم الثقة لا يضر بل ضرورى

لذا ينصح مع تقدم الطفل فى العمر ألا تنفذ رغباته بشكل مطلق وبشكل فورى وتحديد وقت ننتظره قبل الاستجابة يتناسب مع مر الطفل حتى نجنبه عواقب “المطلق” ولو ظنناه جميلا .

 

“وأخيرا .. حب الموت ”

أنا لا أحب الموت .. أهابه كثيراً .. لازال أكبر من استيعابى .. كما قال الجميل الراحل د.أحمد خالد توفيق :
“فكرة الموت بدت لي رهيبة .. أنام الآن ثم لا أصحو أبداً !! أن تكون هذه آخر علاقتي بضوء الشمس والجريدة وطعام الإفطار” ..
هكذا يكون حالى مع كل اسم أعرفه يضاف للقائمة  ..
لا أحب الموت ولا يعد ذلك أمرا فارقاً .. وإدراكى ذلك بعمق يجعلنى أدبدب فى الأرض بغضب طفولى .. ثم أهدأ  .. عن قبول أو عن عجز .. لا أعرف ..
ما أعرفه أن جزءاً منى بشكل ما .. يخفت نبضه .. كما وصف جبران : ”

ما زلت أؤمن
أن الانسان لا يموت دفعة واحدة
وإنما يموت بطريقة الأجزاء
كلما رحل صديق مات جزء
وكلما غادرنا حبيب مات جزء
وكلما قُتل حلم من أحلامنا مات جزء
فيأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميتة
فيحملها ويرحل”

“وأخيرا .. حب الموت”
لازلت أذكر وقع الكلمة الغريب على أذنىّ. . واقشعار بدنى لما سمعتها أول مرة .. وسَكِينة ألمّت بى لما تأملتها لبعض الوقت .. ورجاء حقيقى فى الوصول لهذه الحالة الشعورية .. فى عمر أبكر
وددت لو أصالح الموت قبل أن نتصافح.

 

 

عن د. دعاء أحمد

دعاء أحمد عبد الفتاح استشاري الطب النفسي بكالوريوس الطب والجراحة. جامعة الأسكندرية. حاصلة على الزمالة المصرية للطب النفسي حاصلة على الزمالة العربي للطب النفسي حاصلة على دبلومة ممارسة الطب النفسى DPP بجامعة عين شمس

أبحث أيضاً في

أحاديث نبوية .. وأسس تربوية

أحاديث نبوية .. وأسس تربوية… بقلم د.دعاء أحمد فى عصرنا الحديث تعددت مناهج التربية وأدواتها.. …

تعليق واحد فقط

  1. احمد عبد الفتاح

    واخيرا حب الموت. تهيبت من العنوان فى البداية. ولكن مع قراءة
    التفاصيل تبينت عمق الأفكار مع بساطة عرضها. وأرجو أن يكون لى
    شخصيا نصيبا من عبارة محفوظ. مع المرور بالمراحل الثمانية.
    اللهم انى أسألك عيشة هنية وميتة سويةومردا غير مخز ولافاضح.
    وممن احب لقاء الله فاحب الله لقائه.
    بارك الله فيك يا دعاء. وفتح عليك بالعلم النافع.