الهشاشة النفسية: لماذا صرنا أضعف وأكثر عرضة للكسر؟

الهشاشة النفسية:لماذا صرنا أضعف وأكثر عرضة للكسر؟

 

عن الكاتب

إسماعيل عرفة

صيدلي ومؤلف مصري، تخرج في كلية الصيدلة بجامعة الأسكندرية عام 2018م، له العديد من التقارير المنشورة بقسم رواق على موقع ميدان، ويعمل كباحث ومترجم.

مؤلف كتاب (رسائل ما قبل الانتحار) عام 2021م.

مؤلف كتاب (الهشاشة النفسية: لماذا صرنا أضعف وأكثر عرضة للكسر؟) عام 2020م.

مترجم كتاب (صنع الدولة الحديثة: التطور النظري) لبريان نيلسون عام 2019م.

مؤلف كتاب (لماذا نحن هنا؟ تساؤلات الشباب حول الوجود والعلم والشر والتطور) عام 2017م.

 

مقدمة

يستهل الكاتب كتابه بقصة عن فتاة صغيرة عادت لأمها تبكى وفى حالة انهيار، وبعدما أحتوتها الأم وحاولت معرفة السبب فى بكاء صغيرتها، أخبرتها أخيرا أنها “تعرضت للتنمر”، ما أثار فى رأس الأم زوبعة من الأفكار التلقائية البائسة، هل تعرضت للتحرش؟/ السرقة؟/ الضرب؟ ثم تفاجأت أن ما تراه صغيرتها تنمراً هو أن صديقاتها ذهبن للسينما بدونها!

ومن القصة نتعرف على منهجية الكتاب ورسالة صاحبه..

حيث بسط لاحقاً المصطلحات الفضفاضة، والتعبيرات المبالغ فيها قولاً وسلوكاً، وكيف مالت الكفة إلى الإفراط من بعد التفريط، ما أدى بالنهاية إلى عنوان الكتاب “الهشاشة النفسية”

 

 لمن هذا الكتاب؟

 *عمرياً :

Generation* Z

الذى يطلق على مواليد ١٩٩٧ نزولاً إلى مواليد الألفينات ،”وجدت نفسى بين طيات الكتاب وأنا مواليد ١٩٩٠”

 إجتماعياً:

الطبقة الوسطى وما فوقها، أما المعدمون الكادحون فلا مجال لإنتشار الهشاشة النفسية فيهم، فما يتعرضون له يجعلهم أكثر صلابة نفسية وخشونة من غيرهم من الطبقات الأعلى، قد يتعرضون للإضطرابات النفسية جراء ما يقع عليهم، لكن هذا لا يتعلق بموضوع الكتاب

 نفسياً:

الكتاب غير موجه لأصحاب الاضطرابات النفسية الحقيقية، ولا يحاول بتاتاً الاستخفاف بمعاناتهم

 

اسمتع إلى المقال بصوت د.دعاء أحمد

 لماذا جيل “رقائق الثلج”؟

أولا: لأن رقائق الثلج لا تمتلك قدرة كبيرة على التحمل،هى هشة وسهلة الكسر،كالجيل الذى يعانى من

Pain catastrophizing

أو تضخيم شعور الألم الناتج عن أى مشكلة إلى درجة الكارثية، وبالتالى فهى أكبر وأثقل من قدرته على التحمل، فأى ضغطة على هيكله الضعيف ستجعله يتفكك ويتكسر بالكامل

ثانيا: لأن النظرية العلمية السائدة عن رقائق الثلج أن لها هياكل فريدة، لا يمكن أن نجد رقيقتين متشابهتين أبدا، كذلك الجيل الذى تغذى على أفكار التميز والريادة والاستحقاق والحفاوة الزائدة والشعور العام بالتفرد

 

 Peter Pan Syndrome

متلازمة بيتر بان، الاسم الذى أطلقه بعض المراقبين على جيل رقائق الثلج ،حيث يرفض البعض منهم أن يكبر، يرفض أن يتولى مسئوليات مرحلة الرشد، ويظل طفلاً فى تعامله مع متطلبات المعيشة، ويتحطم مع أول صدام حقيقى له مع ضغوط الحياة الواقعية

 

 الهشاشة ومقابلها الصلابة/المرونة النفسية .. تربية أم طبيعة؟

يتوصل الكاتب بعد سرده لأقوال الباحثين أنها تعتمد بالأساس على التربية والبيئة المحيطة، ويلفت النظر إلى أن جيل رقائق الثلج يعيش حالة الضحية بشكل شبه دائم، حتى قد يتعمد البعض منهم إظهار هذه النفس الضعيفة من أجل جذب التعاطف!

هذه الحالة الدائمة من الشعور بالضعف تحطم الصلابة النفسية للفرد وتجعله عرضة للتحطيم بالكامل مع أول صدمة فى الحياة الحقيقية.

الإفراط فى الدلال من الأبوين، وعدم تحمل المسئولية منذ الصغر، هما بذرة الهشاشة النفسية التى تكبر بمرور الوقت،غذاؤها-بشكل أساسى-السوشيال ميديا وما تقدمه ونقطة النور فى الأمر، هى أننا قد نكتسب المرونة النفسية بالتربية/التدرب عليها،بأن نحمل أنفسنا على تحمل المشاق وتجاوز المشكلات…. لكن كيف يكون ذلك؟

يقدم الكاتب بعض النصائح،على لسانه أو كلمات الآخرين

*اخرج إلى الشارع واطرح هاتفك الذكى جانباً

*اعمل فى وظيفة/تحمل مسئولية نفسك بشكل كامل واستقل ماديا عن أهلك

*تطوع فى قضاء حوائج الآخرين

*الإقتداء بأصحاب الإنجازات الحقيقية وسير السلف الصالح

ويشير إلى نقطة هامة بالأدلة البحثية: يكمن الحل فى اكتساب المناعة ضد كلام الناس وضد مشاكل الحياة وتقلباتها، وذلك يكون بالتعرض وليس التجنب، تماما كما يكتسب الجسد مناعته ضد الفيروسات الميكروبات

ويوضح كيف عالجت الشريعة الإسلامية هذه المسألة-الهشاشة-بالحث على تهذيب النفس، ومخالفة هواها، وعدم تلبية دعوتها إلى الراحة والرفاهية،فى معان عظيمة تواترت فى الكتاب والسنة…. كما عظمت قيمة الصبر وأجره، وحسن التوكل على الله

 

 هوس الطب النفسى

يتحدث الكاتب عن اتساع مفهوم الصدمة، كيف كانت أمثلتها فى بدايات التصنيف المرضى بالأمور العظمى كالحروب والإبادات وامتدت حتى صارت تشمل الأمور الحياتية اليومية، أو الأحداث التى قد تحدث لأى شخص على مدار حياته، وكيف أصبح معيار تشخيص الاضطراب-كرب ما بعد الصدمة-هو ما يحدده المريض نفسه من أذى تعرض له،مع الإختفاء التدريجى للمعايير الموضوعية التى يمكن أن يقاس الاضطراب عليها..

وكيف أصبحت”أنصحك بالذهاب إلى طبيب نفسى” إجابة شائعة حتى مع أبسط المشاعر الطبيعية والمسئوليات الحياتية التى لا تحتاج سوى مزيد من الوقت والجهد،ما أدى إلى حدوث “سيولة” فى التقييم والتشخيص النفسى

وينقل إلينا كلمات آلن فرانسيس أستاذ علم النفس الأمريكى وأحد محررى الدليل الإرشادي للاضطرابات النفسيةDSM

“لا ينبغى أن يكون الحزن مرادفا للمرض، فليس هناك تشخيص لكل إحباط ولا عقار لكل مشكلة، صعوبات الحياة مثل الطلاق والمرض والمشاكل المالية والنزاعات بين الناس، لا يمكن إزاحتها من حياتنا، ورد فعلنا الطبيعى تجاهها كالحزن وعدم الرضا والتثبيط لا يجب توصيفه كإضطراب نفسى علينا أن نعالجه بعقار

تخيل معى لو حدث لك مصيبة فى حياتك وأنت استجبت بأسبوعين من الحزن وفقدان الإهتمام والطاقة، كما عانيت من مشاكل فى النوم والأكل،يبدو هذا متفهما بشدة وطبيعياً بشكل كامل، لكن الدليل الإحصائى يصنف ذلك اكتئابا حادا”

 

The Wellness Syndrome

ما معنى السواء النفسى؟ وما هو “الطبيعى” وكيف نحكم عليه؟، وبالتالى يمكننا الحكم على ما يعد إضطراباً؟

وما الذى ترتب على اللهث وراء الصحة المثالية فى كل شىء؟

يقول الأستاذان بالجامعة كارل سيمر وآندرى سبينسر فى كتابهما “متلازمة الحفاظ على الصحة النفسية” أن الحياة ستعج دائما بالأخطاء، وأن السعادة لا يمكن الشعور بها على طول الخط، ولكن عالم اليوم يرى عدم الرضا وعدم السعادة أمراض ينبغى أن تعالج!، ما تسبب فى “موضة الإضطرابات النفسية” والتضخم فى استخدام عقاقيرها، التى هى ضرورة بالفعل لمن هم فى حاجة إلى إعادة تأسيس نظام إتزانهم الداخلى حيث يعانون من إضطرابات نفسية حقيقية، لكنها تكون ذات أثر عكسى حيث تتدخل بشكل سلبى مع نظام الإتزان الداخلى لهؤلاء الذين يعانون من المشاكل اليومية فقط كما أوضح آلن فرانسيس

لذا فهمومك الناشئة عن ضغوطاتك اليومية،أنت لا تحتاج فيها سوى البوح أولا بأول لشخص يحسن الإنصات والاحتواء،والأنس بالأهل والأصدقاء،وملء الفراغ،التنزه والترويح عن النفس،الاهتمام بالجانب الإيمانى والروحانى،ومنح مزيد من الوقت لجسدك ونفسك لتخطى الأمر، إن لم ينجح كل السابق ذكره،قد تكون فى إحتياج حقيقى لطبيب نفسى

 

 الفراغ العاطفى

يتحدث الكاتب عن الفراغ العاطفى، وكيف تضخم الإحتياج الفطرى وصار شبيها بالأفكار الملحة، يتبعها سلوكيات قهرية”كالإرتباط الغير مدروس/الأنتمة/الكراش”، وما ترتب عليها من بزنس”خبير العلاقات” أو “اللايف كوتش” ممن لا يشترط حصولهم على أى إعتماد أكاديمى، هم فقط يملكون مجموعة من النصائح العامة المطاطة لا يملون من إلقائها بشكل جذاب..

ورغم أن الأسرة توضع فى قفص الإتهام بالإنشغال عن الأولاد والسعى فى جذب مزيد من الأموال وتحقيق الرفاهية المادية فى مقابل التخلى عن التواجد المعنوى وغياب رقابتهم على ما يعرض على الأولاد فى مدارسهم ووسائل التواصل وغياب الإهتمام بتأصيل القيم والمفاهيم الدينية الواضحة، لا يكفى الإشارة إلى كل ذلك كحيلة دفاعية أبدية لما أنت عليه من هشاشة، هناك حقيقة مهمة.. المرء المكلف بعد بلوغه يصبح مسئولاً عن إعادة تربية نفسه حسب التعريفات التى يراها صحيحة

 محفزات الفراغ العاطفى

  • ضعف تقدير المرء لذاته ما يجعله يبحث عن نفسه دوما فى عيون الآخرين
  • الخوف المزمن من أن نكون غير محبوبين
  • الإنسحاب من الحياة الاجتماعية الحقيقية
  • غياب الإنجازات
  • فراغ الوقت والذهن
  • الرسائل الإعلامية اللا واقعية المبثوثة فى الروايات/الأفلام/الأغانى/المسلسلات عن نماذج الحب والرومانسية
  • الاستغراق فى التفكير فى الفراغ العاطفى وكما يقول الرافعى:”لا يريد الهم منك أكثر من أن تريده فيأتى!”
  • الفراغ الروحى..فعدم وجود صلة قوية بين المرء وربه يترك أثرا فى الروح لا يمتلئ بغيره وكما يُروى:”من فقد الله فماذا وجد؟”

 

يقول الكاتب أن بنظرة أعمق نحو الفراغ العاطفى نجد أنه يتفرع عن الفراغ الوجودى..

 “لماذا أعيش؟” بين اليأس والبحث عن الحقيقة

السؤال ضرورة والإجابة لا غنى عنها

البعض يسأل فى رحلة بحث حقيقية عن من أنا؟ ولم أنا؟ وما هو مغزى حياتى؟ وما المطلوب منى فيها؟ وإلى أين المصير؟

وكثير من جيل رقائق الثلج يطرحونه يأساً وإحباطاً من الحياة، وبحثا عن الحلول السريعة، ومحاولة للتحبب إلى العدم، وسعيا إلى مزيد من الاستغراق فى “اللا مبالاة”

ويقدم الكاتب إجابة العالم الرأسمالى الحديث عن الأسئلة الوجودية: لا داعى لها، فلنستغرق فى المتعة اللحظية بعيدا عن معايشة الواقع أو مواجهته، أو محاولات التأمل فى الأسئلة والبحث عن إجابات حقيقية لها

يقول فيكتور فرانكل فى كتابه الشهير عن العلاج بالمعنى: “إذا كان الإنسان يبحث عن المعنى، فللمعنى إذن منبع غير الإنسان، وليس أمراً نبتدعه بأنفسنا”

أين يمكن أن نجده،كيف نخرج من هذا المأزق؟

يقول بيجوفيتش فى مقارنته بين العدمية والدين:”إن الفلسفة العدمية لا تتحدث مباشرة عن الدين، لكنها تعبر عن القلق،عند العدمية وعند الدين الإنسان غريب فى هذا العالم، ففى العدمية هو غريب ضائع بلا أمل، وأما فى الدين فهناك أمل فى الخلاص”

ربما الأمر يحتاج الاستسلام لما سماه عماد رشاد:”الجوع الشديد لله”..

 

 السوشيال ميديا

يتحدث الكاتب عن الآثار السلبية للسوشيال ميديا على صحتنا النفسية وأثرها فى تعزيز الهشاشة فى خمس نقاط رئيسية

١.جرعة النرجسية اليومية ومن رموزها “ظاهرة السيلفى”والتى تصفها الفيلسوفة الفرنسية إلزا جودار بأنها مشكلة تقدير مبالغ للذات، مشكلة غرور

كذلك عالم المؤثرين influencers الذى يلهث صاحبوه فى سباق محموم لنيل الإعجابات والمتابعات حتى ولو باختلاق مالم يحدث من الأساس.

يضيف الكاتب أيضا:”إحدى تجليات النرجسية عند هذا الجيل ما تجده من الإهتمام المفرط بالذات مقابل تهميش قضايا الأمة ” كما يصف كريستوفر لاش الشخص النرجسى:”يهمل التاريخ، ويستغرق فى التفاصيل الشخصية على المستوى اليومى”

من تبعات ذلك أيضا.. تزيين الشعور باللامبالاة، حيث صار علامة نضج وفهم واتزان..

يقول على عزت بيجوفيتش فى كتابه الإسلام بين الشرق والغرب:”بين الحزن واللامبالة، سأختار الحزن”.

٢.التغيير من أجل التغيير ..يتحدث الكاتب عن “هوس التغيير” عند جيل رقائق الثلج،حيث أصبح التغيير فى حد ذاته قيمة نسعى إليها كل دقيقة،بينما صار التركيز والثبات والروتين أمورا مملة وذات طابع سلبى،صارت الثقافة الملموسة”لا يوجد أمر طويل المدى”،ما أفسد القيم “الثقة والولاء والالتزام المتبادل، والأفكار “صارت متطايرة، غير يقينية، غامضة”، والنفسية “التوقعات مرتفعة جداً والإحباطات متكررة، الكل يشعر بالاستحقاق والكل يشعر بالملل”

٣.فقدان التركيز/التشتت المستمر وما ترتب عليه من تقلص مساحات التأمل الذاتى، استبدلناها بصفحات الفيس بوك وفيديوهات اليوتيوب ورسائل الواتس آب. تركنا ذواتنا وتجاربها التى تستحق العمل عليها وإعادة الصياغة فيها وانشغلنا بالتركيز على إنجازات الآخرين ومقارنتنا بهم، ما يؤدى بنا إلى أعراض الحزن والاكتئاب التى لا نقف عندها أيضا فى محاولة لتفكيكها وتقبلها والعمل عليها بل نسعى لمزيد من التشتيت، ومزيد من الهشاشة!

٤.وهم معايير النجاح ..حيث النجاح المفصل بمعايير السوشيال ميديا صار هو التعريف السائد للنجاح، وأى إنجاز على أرض الواقع قد لا تشعر بقيمته لأنه لم يحصد لايكات الإعجاب..

كذلك تصور النجاح عملية سعى واجتهاد محض إن تعاطيت معه تنل النجاح حتما-أدبيات البيزنس والتنمية البشرية- وهو تصور شديد الخطورة، لأن الأدلة والإحصاءات الواقعية-يذكرها الكاتب فى كتابه-لا تتفق مع ذلك، والمحصلة هى أنك ربما تنهار نفسياً وتتحطم معنوياتك بالكامل إذا لم تحقق النجاح بتعريفه السابق ذكره

٥.أفكار من ورق .. قابلة للتحوير فى أى وقت ومستعدة للتكيف مع أى موقف، خاضعة للإنسانية الجديدة حيث تقبل كل شىء والتسامح مع أى شىء، تتبنى الآراء محل الإجماع وتتخذ المواقف التى لا تكلفك شيئا بالمقابل، اللغة عامة وفضفاضة يطوعها كل شخص حسب رغبته وهواه..

بمرور الوقت يصبح كل شىء رمادياً مائعاً، ولا يعود هذا الإنسان قادراً على إتخاذ موقف حتى فى أعماق نفسه، ويصاب بالعجز عن إختيار مشاعر أصيلة وصادقة سواء كانت غضبا/كراهية/اشمئزازا،أو حتى حبا..

 

 جاذبية المرض النفسى

من مساوئ السوشيال ميديا أيضا ما أشارت إليه أليسون ويليامز فى مقالها على مجلة Vice إذ قالت:”الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب وغيرهما يتم تحسين صورتها والترويج لها بشكل مبالغ فيه على وسائل التواصل الاجتماعى،إلى حد أنها أصبحت لها جاذبية خاصة فى بعض الأحيان”

ويختم الكاتب الفصل بنصيحة إغلاق وسائل التواصل لفترات طويلة كل فترة أو اتخاذ بعض الخطوات للحد من الاستغراق فيها وضياع الوقت، ومنح مزيد من الوقت للتأمل الذاتى وتهذيب النفس وتربيتها فى المقابل.

 

 لا تحكم على!

انتشرت فلسفة “اللاحكم”  المطلق، صورة أخرى من صور الإفراط يعرضها الكاتب، ويرى فيها تجريد الإنسان من مكون أساسى من مكوناته الفطرية، ألا وهى “إنكار المنكر”

يقول الكاتب الأمريكى جاسون كروز عن ذلك: “إننى أدعو الله ألا أنسى هذه الحقيقة البسيطة: لا يتم الحكم عليك عندما يتم إخبارك بأنك مخطئ، أو بعبارة أخرى: أنا لا أحكم عليك عندما أقوم بإخبارك بالحقيقة”

ويقول بريان أندروود المتخصص بالعلوم السياسية: “هؤلاء الذين يصرخون”لا تحكم على!” يمكن ترجمة صرختهم إلى رغبتهم فى تجنب مواجهتهم بأخطائهم”

هنا تظهر أزمة أخرى غير أزمة التسامح مع المنكر، وهى تعود النفس على عدم تحمل مسئولية سلوكها وأفعالها، فنجد أنفسنا فى نهاية المطاف أمام جيل غير ناضج البتة حتى فى أشد فترات عنوانه وشبابه

 

“الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من الأسس الإسلامية الواضحة، لها قواعدها وضوابطها،وهى من أمانة الدين التى يتحملها المسلمون ..” ويفصل الكاتب فى ذلك ..

 

 مشاعرنا ليست جديرة بالثقة على طول الخط!

على عكس الرسائل الموجهة لشباب وفتيات اليوم والتى تدور جميعها فى فلك “ثق فى مشاعرك”،حتى صار البعض يرفع المشاعر إلى درجة القداسة، وصارت السياسة والتسويق يحققان مرادهما باللعب على أوتارها، وبعد عبادة المشاعر.. صار الرضا لا يتحقق إلا ب”اهتياج/هيجان المشاعر”

يقول الفيلسوف الفرنسى ميشيل لاكروا: “لغة الحياة اليومية تظهر تفضيلاً للمشاعر القوية على حساب المشاعر الهادئة، ففى أيامنا الحالية نميل إلى المبالغة، ومفردات الاستهلاك والترفيه والأخبار والإشهار تثير توتراً عاطفياً مفرطا، ويظهر فى عبارات متكررة على الدوام “شحنات عاطفية/قصة مجنونة/ارتعاشات مضمونة/سيدهشك هذا الخبر”، كل شىء فى حالة هيجان، وكل شىء يطبعه التشنج”..

ويثير الكاتب سؤاله: كيف يمكننا تحقيق الاستقرار النفسى ونحن نبحث دون توقف عن المواقف المولدة للأحاسيس القوية؟

ثم يفصل الكاتب عن حال الحب والزواج فى زمن تقديس المشاعر.. وكيف أثر ذلك سلبا على منظومة الزواج والأسرة، ويسرد الفارق بين الألوان الصارخة-من الصفات الجسدية والروحية-التى تثير فى البداية، والألوان الهادئة منها التى يكتب لها الاستمرار..

 

 مخدرات الشغف

يروج الشغف على أنه الخطوة الأولى والأهم فى عالم النجاح،ويسرد الكاتب واقعا وإحصاءاً ما ينافى ذلك التصور، ويذكر مقولة لدان لوك”يوتيوبر أمريكى الجنسية آسيوى الأصل”:”ملاحقة شغفك أمر جائز ولا إشكال فيه، بل هو أمر مشروع ويزيد من فرص نجاحك وتقديرك لذاتك، لكنك لا يمكن أن تبدأ به حياتك، إذ أن تحقيق الشغف ليس هدفا أولياً بل هو آخر خطوات السلم”

ويذكر الحل:

أولا :حاول أن تطرح مخدرات الشغف جانباً وتبدأ فى عالم المهارات والفرص والتجارب الحقيقية

ثانيا :الإفادة من نموذج إيكيجاى اليابانى (ما يستحق العيش من أجله) وفيه محاولة تحقيق التوازن بين أربعة دوائر فى حياتك

  1. دائرة الشغف واهتماماتك الشخصية “ما تحب”
  2. دائرة العمل والكسب “ما قد تفعله وتحصل على مقابل مادى بسببه”
  3. دائرة المهارات والإمكانيات “ما تجيد”
  4. دائرة الرسالة والدعوة المطلوبة منك دينيا “ما يحتاجه العالم”

 

*مفتاح النجاة: أنا مريض نفسى إذن أنا أفعل ما أريد!

*لماذا صرنا نتعاطف مع الأشرار بدلا من كراهيتهم ؟

يورد الكاتب بعض الفيديوهات التى انتشرت على السوشيال ميديا، وكيف تغيرت طبيعة التعليقات بعدما دست فكرة “اعذروه فهو مريض نفسى” فى أذهان متابعى الوضع ..

وكيف أصبح ذكر كواليس الحياة الشخصية طريقا للتعاطف مع الأفعال الشريرة-مثال:فيلم الجوكر-

وكيف رُفعت الحالة النفسية إلى درجة من القداسة تجعلها المحرك الرئيسى لكل الأفعال، ومن ثم فإن الفعل ذاته لا يمكننا محاسبة فاعله قبل أن نتفهم”حالته النفسية” فى وقت الفعل..

ويشير إلى نقطة هامة .. “الحالة النفسية” فى وقت الفعل لا تعد مبرراً لحدوثه، الحالات الاستثنائية-التى يقررها القضاة والمختصون النفسيون- تحصل بسبب إختلال الإدراك وغياب العقل وليس بسبب الحزن أو الضيق!

الإنسان مسئول عن تصرفاته، وعن عواقب أقواله وأفعاله مقصراً كان أو مجتهدا، حزيناً كان أم سعيداً،مطمئنا كان أم خائفا.

ويفصل الكاتب فى إجابة السؤال”متى يعتبر الاضطراب النفسى عذراً ف الشريعة؟”

 

*كيف أصبح الإيمان أهون من الحالة النفسية؟

أنا حزين إذن أنا ملحد!*

يتحدث الكاتب عن أثر آخر لتقديس الحالة النفسية، وكيف يتجه بعض الشباب والفتيات للإلحاد بسبب تسخطهم على أقدار الله، فيدفع السخط أحدهم إلى الإلحاد لأنه يعانى من بعض مشاعر الضيق أو الحزن،ويسوق الكاتب عدة نماذج لشباب وفتيات اختاروا الإلحاد فى اندفاع شعورى دون أى محاولات للتفكير الجاد أوالتحقق والبحث عن الحقيقة..

 

 خاتمة

يأخذنا الكاتب معه فى رحلته البحثية عن الهشاشة النفسية، لغته سهلة، وحية،والأمثلة المكتوبة نقرأها ونعايشها بصورة يومية

ستجد فى الكتاب بعضاً من ملامح شخصيتك،وتخبطاتها، وقد يكون الكتاب كافياً لك فى رسم صورة عامة، أو قد ترغب فى الاستزادة، والجميل فى هذا الكتاب أن فى سطوره، وفى المراجع تجد أسماءاً وكتباً تساعدك على تحقيق ذلك..

 

وأختم المقال بمقولة

“ابن القيم”الواردة فى بداية الكتاب:

“وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لايُدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة ، وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له ولا لذة لمن لاصبر له

ولا نعيم لمن لاشقاء له ولا راحة لمن لا تعب له

بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً وإذا تحمل مشقة الصبر ساعه قاده لحياة الأبد،

وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة

وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدون أوفر وحظه من الراحة أقل،والله المستعان،ولا قوة إلا بالله ”

ابن القيم , مفتاح دار السعادة

 

د.دعاء أحمد
أخصائية الطب النفسي
أناة

للحصول على كتاب “الهشاهة النفسية   من مصر         من السعودية ودول الخليج

 

 

 المقال بصوت د.دعاء أحمد


 

عن د. دعاء أحمد

دعاء أحمد عبد الفتاح استشاري الطب النفسي بكالوريوس الطب والجراحة. جامعة الأسكندرية. حاصلة على الزمالة المصرية للطب النفسي حاصلة على الزمالة العربي للطب النفسي حاصلة على دبلومة ممارسة الطب النفسى DPP بجامعة عين شمس

أبحث أيضاً في

نظرة “إلى” شباك العنبر

أذكر فى بداية نيابتى كطبيب مقيم نفسية وعصبية مريضا من مرضى العنبر ،كلما جلس أمامى …