مفاهيم خاطئة عن الطب النفسى وعلاجاته

مفاهيم خاطئة عن الطب النفسى وعلاجاته

د.دعاء عبد الدايم

يواجه الطب النفسى اتهامات عدة، البعض يقلل منه ولا ينظر إليه كما ينظر إلى تخصصات الطب الأخرى

البعض يخاف منه ويراه وصمة وهو ما عززه إعلامنا كثيرا

البعض ينظر إليه نظرة تشاؤمية لأنه لا يمثل له سوى انعكاسا للجنون

والحقيقة أن الطب النفسى هو أحد أهم مجالات الطب فى العصر الحديث،والأمراض النفسية يزداد رصدها ويزداد البحث والاكتشافات العلمية المدروسة فى علاجاتها

هل تعلم مثلا أن الانتحار مثلا يقع فى المرتبة الثامنة عشر لأكثر عشرين سبب من مسببات الوفاة على مستوى العالم لهذا العام

https://deathmeters.info

وأن معظم حالات الانتحار لديها تاريخ مرضى بأمراض نفسية كالاكتئاب الجسيم أو اضطراب ثنائي القطب؟

هل تعلم أن من المتوقع أن يقفز الاكتئاب المرضى عاليا ليكون من الأسباب الثلاثة الأولى للوفاة بحلول عام 2030

فى السطور التالية،أحاول سرد بعض المعتقدات الخاطئة عن الطب النفسى،والعلاجات النفسية

وآمل أن تكون كلماتى ذات أثر طيب فى تصحيح المفاهيم،وإعادة النظر،وتثبيت أقدام من يفكر فى طلب المساعدة

 *أنت لا تعانى من أي مشكلات صحية

من الشائع فى المستشفيات العامة والعيادات أن يذهب بعض المرضى لإجراء الكشف والفحوصات الطبية اللازمة لمعرفة سبب عرض أو ألم ما يشعرون به وتأتى نتائج الفحص السريري والمعملى وغيرهما بما لا يفسر إطلاقا أو لا يفسر بشكل كامل شكوى المريض

هنا تأتى إجابة الطبيب : (الفحوصات سليمة،وأنت لا تعانى من أى مشكلات صحية)

ما قد يشعر المريض بالإحباط لأنه لازال يعانى الألم والمشقة ولم تخفف كلمات الطبيب من ذلك شيئا

Somatization

أو الأعراض النفسجسدية هى أعراض جسدية واضحة يشعر بها المريض ولا يوجد تفسير طبى واضح لها-ربما لأنه لم يكتشف بعد- وربما لأن العامل النفسى -المتعلق بالأفكار والمشاعر-يلعب دورا أكبر

alexithymia

مصطلح يعبر عن حال بعض الأشخاص، يعانون صعوبة فى التعرف على مشاعرهم والتعبير عنها بوضوح ،ولا يحسنون التعامل مع الضغوط، فتختلط أفكارهم ومشاعرهم الداخلية بإحساسهم الجسدى

وعندما يصمت اللسان ينطق الجسد

ربما الطبيب خانه التعبير لما قال: (أنت لا تعانى من أى مشكلات صحية)

الأصح هو أنك (تعانى بالفعل، وشكواك حقيقية تماماً ،لكنها تحتاج تدخلا طبياً من نوع آخر)

قد يرشدك طبيبك للذهاب إلى طبيب نفسى، ما يستقبله بعض المرضى كانتقاص من شكواه أو إهانة لشخصه، ويرجع ذلك لأسباب عدة منها الوصمة التى لازال يعانى منها الطب والمريض النفسى

والحقيقة أن الطب النفسى هو أحد التخصصات الطبية، أمراضه عضوية تترك أثرها على المخ شكلاً ووظيفةً،وتترجم بعض أعراضه كأعراض جسدية، وعلاجاته سواءا كان بالأدوية أو العلاج الكلامى مدروس أثره بشكل علمى وعملى، ولا زالت الإكتشافات فيه تتوالى، كأى تخصص آخر

فإذا كنت تعانى مشكلة صحية،وقمت بالذهاب لأطباء عدة،وأجريت فحوصات كثيرة بلا جدوى

قد تساعدك زيارة طبيب نفسى وتجد فى العيادة النفسية ارتياحا لم تجده خارجها

*المريض النفسى مصدر خطر على الآخرين

يعتقد البعض أن المريض النفسى يتسم بالعنف ويتسبب فى إلحاق الأذى بالآخرين -وهو ما قد يحدث فعلاً فى الحالات المرضية الحادة والشديدة فى درجتها- لكن بشكل عام، أثبتت الدراسات أن معدل أعمال العنف من المرضى النفسيين لا يتجاوز معدل أعمال العنف ممن لا يعانون أمراضا نفسية

بل إن المريض النفسى أكثر عرضة لأن يكون ضحية للعنف لا متسبباً فيه

*لا يستطيع المريض النفسى أن يحيا حياة طبيعية

يعتقد البعض أن تكون مريضا نفسيا يعنى أن حياتك قد توقفت، وأنك أصبحت عالة على غيرك، وبحاجة لمن يتكفل بكل احتياجاتك ويتحمل جميع مسئولياتك

والحقيقة أن المرض النفسى هو كأى مرض عضوى، تختلف درجات الشدة فيه، والحالات المتأخرة والشديدة فيه قد تتسبب فيما يشبه ذلك فعلا، كأى مرض عضوى فى حالته المتأخرة كالسرطان مثلا والفشل الكبدى والكلوى -عافانا الله وإياكم-

أما الحالات المؤقتة أو طويلة المدى لكن بسيطة أو متوسطة الشدة فهى كمثيلاتها من الأمراض العضوية كالسكرى وأمراض الضغط، تلتزم فيها بالدواء أو العلاج الكلامى-ما تقرره مع طبيبك بعد خضوعك للفحص- وأيضا  بعض التعديلات فى نظامك اليومى والحياتى

وتحيا بشكل طبيعى تماما، تمارس عملك وتعتنى بنفسك وأسرتك، وتمارس نشاطك الرياضى والاجتماعى والترفيهي مثل الجميع

*الأدوية النفسية هى مواد مخدرة

هناك اعتقاد شائع أن الأدوية النفسية تسبب الإدمان ما يجعل الكثيرين يحجمون عن زيارة الطبيب النفسى خوفا من الدخول فيما يسمونه”دوامة العلاج”

والحقيقة أن بعض الأدوية التى قد يتطلب تشخيص المريض كتابتها قد تسبب الإدمان فعلاً -وهذا ما لا يحدث فيها حتى مع كوْن ذلك من خصائصها- إذا إلتزم المريض تعليمات الطبيب فى الجرعة والمدة المحددة مع التقليل التدريجى كما يرشد الطبيب حتى نوقف الدواء تماما

أما المعظم المتبقى من الأدوية النفسية فهو كباقى الأدوية العامة، لا تسبب الاعتمادية، وليست إدمانية على الإطلاق

فإذا كان ذلك المعتقد هو سبب فى ترددك فى الذهاب إلى طبيب نفسى، أرجو أن يكون تصحيح المعلومة يكون سبباً فى إعادة النظر فى قرارك

*المرض النفسى ضعف فى الشخصية/ضعف فى الإيمان

يظن البعض أن المرض النفسى يعكس بالضرورة ضعفا فى شخصية المريض، أو ضعفا فى إيمانه

وهو ما يبعد كل البعد عن الحقيقة

المرض النفسى كأى مرض عضوى،له أساس جينى/بيولوجى -لا دخل لنا فيه-ساعد فى ظهوره عوامل بيئية ونفسية ومجتمعية… ويحتاج التدخل العلاجى كأى مرض آخر

أما فيما يتعلق بالإيمان والمعتقد الدينى ، فهو بالفعل قد يكون من الأسباب الوقائية -أثبتت الدراسات أن معدلات الإنتحار فى أصحاب الديانات أقل من معدلات الإنتحار فيمن لا يؤمنون بالأديان-

وقد يساعد فى تقبل المرض كإبتلاء له أجره ويسرع من الوصول لمرحلة التقبل والرضا، ما يترك أثره فى عملية التعافى، كأن يكون المريض أكثر حرصا على العلاج من باب الأخذ بالأسباب فتصبح العوامل الجيدة لحسن المآل prognosis أكثر قوة

أما الاعتقاد بأن قوة الشخصية والمرض النفسى لا يجتمعان، أو أن الإيمان والمرض النفسى لا يجتمعان، هو اعتقاد خاطئ ومعطّل وسبب فى ألا يحصل المريض مبكراً على ما يستحقه من رعاية لازمة قد تكون سببا فى تفادى درجات أشد وأكثر تعقيدا من المرض

*المرض النفسى لا شفاء منه

يظن البعض أن جميع التشخيصات النفسية مزمنة، وأن العلاج النفسى يمتد لآخر العمر

وهو الحال بالفعل فى بعض التشخيصات، كما هو الحال فى تشخيصات عضوية أخرى كالسكرى وأمراض الضغط

كما يوجد بالطب النفسى تشخيصات مؤقتة، بسيطة أو متوسطة الشدة، أو تأتى فى شكل نوبات مثلها مثل الوعكات الصحية الأخرى كأدوار الإنفلونزا ونوبات الصداع تأخذ حظها من العلاج الدوائى أو الكلامى حتى تهدأ حدة الأعراض أو تختفى ويتوقف العلاج عندئذ

*علاج جلسات الكهرباء/الصدمة الكهربائية ECT مؤلم ووحشى

من الاعتقادات الشائعة جدا والتى ساهم الإعلام والدراما -للأسف- فى ترسيخها فى المجتمع أن جلسات الكهرباء لا تعكس سوى الوحشية والبربرية مع المريض النفسى

وأن المريض يتألم أشد الألم مع استخدامها

والحقيقة أنه أحد العلاجات الفعالة جدا فى الحالات شديدة الدرجة ، ويكون الاستجابة لها أسرع والأعراض الجانبية أخف وطأة من الأدوية النفسية

تستخدم بشكل مؤقت -يتحدد عدد الجلسات حسب طبيعة المرض واستجابة المريض- فى الحالات الحادة أو شديدة الدرجة كما أوضحنا سابقا وبعد استقرار الحالة تعاود الاستمرار على العلاج الدوائى ، وقد يعاد استخدامه وقت اشتداد النوبات

كما أن الجلسات لا تكون مؤلمة أبداً ،يكون المريض مخدراً، وإذا سألته عما حدث فسيخبرك أنه لا يتذكر ولم يشعر بشىء

*العلاج النفسى دوائى فقط

يظن البعض أن زيارتك للطبيب النفسى تساوى بالضرورة العلاج الدوائى

والعلاج الدوائى ضرورى حقاً فى بعض الأمراض النفسية-خاصة فى الدرجة المتوسطة إلى الشديدة- غير أن هناك عالم آخر من العلاج اسمه العلاج النفسى الكلامى psychotherapy مدارسه عديدة ، أهمها العلاج المعرفى السلوكي بكل أجياله ، والتى أثبتت الدراسات العلمية الواقعية أثرها الشافى طويل المدى نكتفى بها فى مشكلات نفسية عديدة، أو نلتزم بها جنبا إلى جنب مع العلاج الدوائى

*الأدوية النفسية لا فائدة منها

قد يخبرك شخص ما:”ذهبت إلى الطبيب ووصف لى علاجاً التزمت به أسبوعاً أو أسبوعين ولم أجد له أثراً، بالعكس عانيت من آثاره الجانبية،فتركته”

وأقول لك: لقد أخبرك الشخص بالحقيقة

فغالب الأدوية النفسية تحتاج بعض الوقت كى تلمس أثرها

قد تحتاج من أسبوع لأسبوعين وربما أكثر فى بعض الأمراض كى تبدأ عملها الفعلى

وهى -كأى دواء-لها أعراض جانبية تظهر وتخف حدتها تدريجيا بمرور الوقت وإذا لم تخف حدتها أو هى مزعجة جدا بالنسبة لك نتدخل للتعامل معها بشكل دوائى أو تكيّفى وربما تغير الدواء بآخر

وهذا ما نخبر به مرضانا مع وصف العلاج لبناء الوعى ووضع توقعاتهم فى مكانها الصحيح

خطأ المريض هنا أنه قرر التوقف عن العلاج من نفسه، قبل مراجعة طبيبه، ربما فى الوقت الذى كان سيبدأ فيه الشعور بالتحسن بأن يبدأ الدواء مفعوله أو تخف حدة الأعراض الجانبية أو كليهما

والأدوية النفسية على وجه الخصوص تحتاج استشارة طبيب متخصص قبل البدء بها -لا تأخذها من تلقاء نفسك بناء على نصيحة صديق مثلا-

وقبل التوقف عنها – لأنها لا تتوقف فورا بل تسحب تدريجيا بشكل يختلف من مريض لآخر حسب استجابته مع مراقبة دقيقة لأى احتمالات للانتكاس-

*بدأت العلاج النفسى الكلامى ووضعى يزداد سوءا

قد يخبرك شخص ما:”لما بدأت الجلسات النفسية، صار الوضع أسوأ وأكثر صعوبة”

العلاج النفسى الكلامى ليس مجرد بوح بما فى داخلك -هو خطوة أساسية وأولية طبعا لكنه لا يمثل كل شىء-

أنت تبوح بما يؤلمك -وهو ليس سهلاً وربما أنت تفعله بهذا الوضوح وهذا العمق لأول مرة-

ثم نعيد سويا ترتيب المشاهد

ونضع أيدينا على المشكلات ونحدد ما يمكننا العمل عليه وما هو خارج عن إرادتنا

ثم نضع أهدافاً علاجية وخطة عمل نلتزم بخطواتها سوياً كى نصل إلى النتيجة المرجوة

ألم البوح فى البداية قد يجعل الحالة الشعورية تزداد سوءا لبعض الوقت -عدة جلسات-ثم مع تنظيمها والعمل على الأفكار المتعلقة بها والسلوكيات المترتبة عليها يحدث التحسن التدريجى طويل المدى

كما أن تغيير العادات اليومية والأنماط الثابتة المتكررة للشخصية يتطلب جهدا ووقتا -ما يخالف التوقعات العالية لبعض المرضى- فيسبب لهم إحباطاً ويتسرعون فى الحكم على العملية العلاجية

ووضع التوقعات فى محلها والاستعداد الحقيقى للتغيير والالتزام بمتطلبات العلاج هى مفاتيح أساسية كى ينجح الطبيب أو المعالج النفسى فى مهمته مع مريضه

هذه بعض الأفكار المغلوطة التى سمعتها بالفعل من المحيطين فى الجلسات الاجتماعية والعيادية وآمل أن تساهم كلماتى فى رسم صورة أكثر واقعية،

وتثبيت أقدام المترددين فى طلب المساعدة.

دمتم بخير وعافية…..

د.دعاء عبدالدايم…. استشاري الطب النفسي

عن د. دعاء أحمد

دعاء أحمد عبد الفتاح استشاري الطب النفسي بكالوريوس الطب والجراحة. جامعة الأسكندرية. حاصلة على الزمالة المصرية للطب النفسي حاصلة على الزمالة العربي للطب النفسي حاصلة على دبلومة ممارسة الطب النفسى DPP بجامعة عين شمس

أبحث أيضاً في

أبناؤنا ومواسم الطاعات

 أبناؤنا ومواسم الطاعات بقلم: د.دعاء أحمد فى مواسم الطاعات تتنزل الرحمات..وتتضاعف الحسنات..وتتسع طاقات البذل ويكبر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *